كعادته كل سنة، شارك الرئيس عبد الفتاح السيسي، مساء الخميس، في احتفالات عيد الميلاد المجيد بكاتدرائية ميلاد المسيح في العاصمة الإدارية، وهو تقليد حرص الرئيس على أدائه منذ توليه منصبه في ٢٠١٤، وكأنه تذكير سنوي بأن مصر تسير على الطريق الصحيح نحو الأمن والاستقرار، الناتج عن تماسك الشعب المصري بكافة مكوناته، بعد عقود عانت خلالها المكونات الأكثر ضعفاً، مثل المرأة والأقباط من التهميش والتمييز الممنهج سواء بفعل الأفكار المتطرفة التي سمم بها الإسلاميون المتطرفون مجتمعنا، أو بسبب القوانين غير العادلة وتسامح الأنظمة السابقة مع ممارسات التمييز دون اتخاذ أي خطوة حقيقية نحو مكافحتها أو تغيير موقف المجتمع بشأنها، بل على العكس كان بعضهم يستغل الفجوة الحادثة في الحريات الدينية لتعزيز سلطته وضمان بقاءه من خلال بث الخوف.
لهذا، ليس غريباً أن يكون غالبية القاعدة الانتخابية المؤيدة للسيسي هي من المرأة والمسيحيين، حيث رأوا في سياسته المناهضة للخطاب الديني المتطرف وأيدولوجية الإسلام السياسي، ملاذاً من كافة أشكال التمييز التي عانوا منها في الماضي. وعلى المستوى الأكبر، فإن دعم الرئيس السيسي لحقوق المواطنين المسيحيين، وللحريات الدينية بشكل عام، يرحب به معظم المصريين كمؤشر على أن مصر بخير، آمنة ومستقرة، وهو ما أشار إليه الرئيس السيسي بوضوح في خطابه من داخل الكاتدرائية يوم الخميس، حيث أكد على أن وحدة الشعب هي ما "يجعلنا قادرين على التعامل مع أي تحديات أو صعوبات"، داعياً المصريين إلى عدم السماح لأي شخص بتقسيمهم.
على الرغم من أن كل الدساتير المصرية السابقة كانت تكفل حرية الاعتقاد كحق أصيل لكل المواطنين، إلا أن أي من الأنظمة السياسية السابقة لم يظهر احترام حقيقي لهذا الحق، وبالتالي تعود العقل الجمعي في مصر على إهماله وتجاهله، مما أدى لمعاناة كبيرة لأصحاب الطوائف والمذاهب غير الإسلامية، لاسيما المسيحين رغم كونهم يشكلون أكثر من ١٥٪ من إجمالي السكان. مثلاً، في عهد الرئيس عبد الناصر، تم اضطهاد اليهود المصريين بشكل فج، على خلفية الحرب بين مصر وإسرائيل. وفي عهد الرئيس السادات، تم تمكين المتطرفين الإسلاميين وجماعات الإسلام السياسي للقضاء على الفكر الشيوعي الذي تبناه وروج له عبد الناصر أثناء فترة حكمه، وترتب على ذلك تعزيز التطرف الديني في المجتمع وبالتالي التمييز ضد أصحاب الديانات المختلفة، بل وحتى التمييز ضد أصحاب المذاهب المختلفة داخل الدين الإسلامي الذي يشكل الغالبية. وفي عهد الرئيس مبارك، الذي امتد ثلاثين سنة، احترف النظام التلاعب بورقة الحريات الدينية مع الغرب دون أن يكون لذلك أي مردود حقيقي على وضع المسيحيين أو غيرهم من أصحاب العقائد المختلفة في الداخل، بل كانت الدولة متسامحة إلى حد بعيد مع الممارسات الطائفية، كما اساء نظام مبارك إلى المسيحيين بتخويفهم بورقة الطائفية وإبعادهم عن المشاركة بشكل فاعل في الحياة العامة.
على النقيض تماماً من كل ذلك، أظهر الرئيس السيسي تفانيًا لا مثيل له في تحسين أوضاع الحريات الدينية في مصر، كأداة لمكافحة التطرف العنيف واستعادة السلام والأمن والاستقرار في البلاد. إذ جاء الرئيس السيسي إلى السلطة في فترة الفوضى الشديدة وانعدام الأمن التي تبعت سقوط الإخوان من الحكم في ٢٠١٣، ولم يتردد مطلقًا في اتخاذ خطوات صادمة لإحياء التراث اليهودي والمسيحي في مصر، والضغط على مؤسسة الأزهر لتجديد الخطاب الإسلامي ومكافحة الأفكار المتطرفة، ومن ثم تمكن الرئيس السيسي من إحياء حالة التسامح الديني والثقافي التي غابت عن المجتمع المصري لعقود، وكانت دائمًا هي المكون السري لعظمة مصر على مدار تاريخها الطويل.
على سبيل المثال، في العام الماضي، وافقت وزارة التربية والتعليم على تدريس منهج دراسي جديد لطلاب المدارس الابتدائية والإعدادية، يحتوي على النصوص الدينية والقيم المشتركة بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة؛ اليهودية والمسيحية والإسلام. جدير بالذكر هنا، أنه لم يتم تدريس النصوص الدينية اليهودية في المدارس المصرية منذ عهد عبد الناصر، والنصوص الدينية المسيحية كانت تدرس للطلاب المسيحين فقط في فصول دراسية خاصة، بصورة تأجج للتمييز والتفرقة في نفوس الطلاب. وقد سبق وقال الرئيس السيسي في مؤتمر الشباب عام ٢٠١٧ أنه يدعم حق كل مواطن في اختيار دينه، "حتى لو اختار ألا يكون له دين"، وكانت مثل هذه الكلمات جديدة تماماً على آذان كثير من المصريين.
إلا أن الجهود العظيمة التي يقوم بها الرئيس السيسي والدولة المصرية بشكل عام تجاه ضمان وتعزيز الحريات الدينية لا تكفي وحدها لإحراز نتائج إيجابية في هذا الملف على المدى الطويل. صحيح أن الدولة قد نجحت في حل مشكلات تاريخية عانى منها المواطنين المسيحيين كما ذكرنا، وربما أهمها إصلاح قوانين بناء الكنائس، لكن هذه المجهودات مهددة بالضياع على المدى البعيد، لو لم يتم زرع قيم التسامح في العقل الجمعي للقواعد الشعبية، وهو الأمر الذي يتطلب بدوره تحرك مواز من جانب الدولة من أجل تعزيز الحقوق السياسية والمدنية كمنظومة كاملة، وهو مع الأسف ملف ما زالت مصر تعاني من تأخر شديد فيه.
اقرأه أيضاً على المدار
Comments