بعد شهر واحد فقط من انطلاق "الحوار الوطني" رسميًا في مصر، دعا المنسقون إلى تعليق الدورات المستقبلية مؤقتًا، متذرّعين بأن قاعة المؤتمرات المخصصة لعقد الجلسات قد تضررت نتيجة عاصفة رملية خفيفة ضربت القاهرة في الأول من حزيران/يونيو. ونظرًا لعدم منطقية هذا التبرير، يشكك المراقبون في أن يكون منسقو الحوار قد أوقفوا الجلسات فعلًا بسبب العاصفة، مرجحين أن يكون السبب هو تجنب الصدام بين الأحزاب السياسية المشاركة بسبب الهجمات العنيفة الأخيرة التي استهدفت انتخابات نقابة المهندسين المصرية الأسبوع الماضي.
فقبل يومين من العاصفة، شنت مجموعة هجومًا عنيفًا متعمدًا على نقابة المهندسين المصرية أثناء التصويت على بقاء نقيب المهندسين الحالي، طارق النبراوي، في منصبه، وهو شخصية مستقلة لا تنتمي إلى أي جهة السياسية. وفي حين فتح المدعي العام تحقيقًا في الحادث المروع، تشير مقاطع الفيديو التي التقطها شهود العيان، والتحقيقات التي أجرتها الصحافة المحلية، إلى أن عددًا من نواب حزب "مستقبل وطن" كانوا يقودون المهاجمين ويشاركون شخصيًا في الاعتداء.
ويُشار إلى أن حزب "مستقبل وطن" يملك الأكثرية في مجلس النواب الحالي. وقد أُسّس الحزب في تشرين الثاني/نوفمبر 2014 بعد بضعة أشهر على وصول عبد الفتاح السيسي إلى سدة الرئاسة. وانضم الكثيرون من الشخصيات الموالية لنظام مبارك إلى هذا الحزب وفازوا في معظم الدوائر الانتخابية الموالية لـ "الحزب الوطني الديمقراطي" المنحل الذي كان يتزعمه مبارك. وجدير بالذكر أن أحد نواب حزب "مستقبل وطن" الذي ظهر في لقطات الاعتداء على النقابة هو عضو بارز في "الحزب الوطني الديمقراطي" وسبق أن اتُّهم باستئجار الخيول والجمال لمهاجمة المتظاهرين السلميين في ميدان التحرير خلال الربيع العربي في مصر عام 2011.
بعبارات أخرى، ليست العاصفة الرملية هي التي أحبطت آفاق الحوار الوطني، بل حقيقة أن هذا الحادث العنيف الذي وقع مؤخرًا كشف بدرجة كبيرة عن هشاشة الحوار وافتقاره إلى المصداقية. فحتى قبل الهجوم، لم يكن لما يسمى بـ "الحوار الوطني" في مصر علاقة تُذكر بعنوانه الرنّان. فلا هو حوار ولا هو مسألة وطنية، بل سلسلة خطابات منظمة برعاية الدولة ضمن إطار زمني لا متناهٍ، ومصممة بعناية لاستمالة المعارضة الضعيفة، ولكن الصريحة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ولتحسين صورة القاهرة المشوهة بنظر الغرب.
لقد كان أتباع مبارك والناصريون الأكثر انتقادًا لسياسات السيسي على مدى السنوات التسع الماضية. وتتمحور أبرز انتقاداتهم حول المقارنات بين الحقبة الراهنة وذكرياتهم عن حقبتَي حكمهما السابقتَين اللتين يحنّون إليهما. وتشعر هاتان المجموعتان بالغربة في ظل الوضع الحالي، خصوصًا إزاء تعاون الدولة الثنائي والإقليمي المفتوح والمتزايد مع إسرائيل. ويضع اليساريون، على وجه الخصوص، العداء تجاه إسرائيل في صميم أيديولوجيتهم السياسية.
واندرج إبقاء هاتين المجموعتين منشغلتين تحت ستار الحوار الوطني ضمن استراتيجيات الدولة لتهدئة التوترات السياسية ونزع فتيل الغضب الشعبي الموجه ضد الحكومة في وقت تتغلب فيه مصر على الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي وقعت العام الماضي. في غضون ذلك، يمكن أن تسمح مثل هذه المحادثات والتجمعات لممثلي الدولة بإجراء اتصالات مباشرة مع شخصيات معارضة بارزة وإقناعها بالتحالف مع الدولة قبل الانتخابات الرئاسية المرتقبة في عام 2024. ولكن من المستبعد أن يحقق الحوار الوطني نتائج لاحقة أبعد من ذلك.
فقد أمضى منظمو الحوار الوطني عامًا كاملًا في التحضيرات اللوجستية وتشكيل اللجان واللجان الفرعية وتوظيف المقررين وغيرهم من الموظفين لهذه اللجان. وعلى الرغم من فترة التخطيط الطويلة، لم يدعُ المنظمون الفصائل الرئيسية في المجتمع المدني المصري إلى ما تم تسويقه على أنه حوار "وطني وشامل وجامع".
استُبعدت مجموعتان عمدًا من الحوار الوطني، إحداهما هي جماعة الإخوان المسلمين، وهي منظمة غير قانونية في مصر، والأخرى هي جماعات الناشطين الموالية للغرب والمؤيدة للسلام في المنطقة ومنظمات المجتمع المدني، على غرار "معهد الديمقراطية الليبرالية"، وهو مركز أبحاث أترأسه شخصيًا. وعندما سألت عن سبب منعي من المشاركة في الحوار، قيل لي إن آرائي السياسية حول إسرائيل لا تروق لمنظمي الحوار الناصريين.
فضلًا عن ذلك، استُبعدت شخصيات عامة أخرى ذات توجهات سياسية لا ترضي المنظمين اليساريين/الناصريين، من بينها الدكتور سعد الدين إبراهيم، وهو عالم اجتماع مصري أمريكي بارز وأحد أقدم المدافعين عن الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في مصر. ويُعد مركز الأبحاث التابع له، "ابن خلدون للدراسات الديمقراطية"، أقدم مركز أبحاث في العالم العربي يركز على المجتمع المدني والتحول الديمقراطي، ومع ذلك تم استبعاده هو أيضًا. والجدير بالذكر أن الدكتور إبراهيم كان قد تحدث سابقًا في الجامعات الإسرائيلية. وكان غياب الناشطين الليبراليين الموالين للغرب عن الحوار ملحوظًا بشكل خاص نظرًا إلى دعوة شخصيات سلفية إلى حضور جلسات الحوار.
على الرغم من أوجه القصور، ثمة جانب مشرق لهذه التجمعات. في أفضل الأحوال، قد تستخدم الأطراف المعنية هذا الزخم للتعبير مباشرةً عن تظلماتها. وبالفعل، أكد وزير الخارجية السابق عمرو موسى أن "الأخطاء الداخلية" مسؤولةٌ جزئيًا عن الأزمات الحالية في مصر. وقد يتمكن المشاركون من الضغط لإطلاق سراح السجناء السياسيين التابعين لهم أو لإجراء إصلاحات طفيفة على بعض التشريعات والسياسات التي تتماشى مع أجندة الدولة. ومن الأمثلة على ذلك الدعوات إلى سن قوانين للسيطرة على النمو السكاني، وتوسيع نطاق الإشراف القضائي على الانتخابات، وتعديل القانون الشهير بشأن الاحتجاز السابق للمحاكمة، وربما أيضًا إطلاق لجنة لمكافحة التمييز يمكن فيها تعيين بعض شخصيات المعارضة اليسارية.
مع ذلك، سيتم تجنب المواضيع الأكثر إثارة للجدل التي تتعارض على الأرجح مع قيادة الدولة. ففي افتتاح الحوار الوطني في أوائل أيار/مايو، أعلن منسق الحوار، ضياء رشوان، أن المواضيع الثلاثة التالية محظورة: "الدستور الحالي، وقضايا السياسة الخارجية، وقضايا الأمن القومي".
عندما دعا السيسي العام الماضي إلى حوار شامل، عُقدت آمال كبيرة على تفعيل الحياة السياسية في مصر أخيرًا للخروج من نفق الاستبداد الذي يسبب تراجعها منذ عقود. في الواقع، تروق فكرة الإصلاحات التدريجية بدلًا من الثورة لمعظم المواطنين والسياسيين والناشطين في مصر اليوم. ولكن تبيَّن أن صيغة وشكل المنتج النهائي لما يسمى بـ "الحوار الوطني" مخيب للآمال. فمع استبعاد بعض المواضيع والأفراد عمدًا، يصعب التصديق أن الحوار قد يسهم في أي حلول ملموسة للاختلالات السياسية المزمنة في مصر. وما تعليق مناقشات الحوار سوى تأكيد جديد على هذه النقطة.
تم نشر هذا المقال أولاً في منتدى فكرة التابع لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى
Comments