د. موسى أوشونو؛ أستاذ كرسي كورنيليوس فاندربيلت في التاريخ وأستاذ التاريخ الأفريقي بجامعة فاندربيلت
في العام ٢٠١٥، أنفقت نيجيريا، الدولة ذات المائة وتسعين (١٩٠) مليون نسمة، مبلغ ٦٢٥ مليون دولار لتنظيم الانتخابات الفيدرالية والمحلية، في حين أن دولة مثل الهند، ذات الـ ١.٢ بليون نسمة، قد أنفقت في نفس العام مبلغ ستمائة (٦٠٠) مليون دولار على الانتخابات، وفق ما أعلنته هيئة إدارة الانتخابات في الهند. وفي العام ٢٠١٩، ارتفعت الميزانية المخصصة للانتخابات، والتي تتولى إدارتها الهيئة المستقلة للانتخابات في نيجيريا، لتصل إلى ٦٧٠ مليون دولار، بما يمثل حوالي ٢.٥ بالمائة من ميزانية نيجيريا للعام ٢٠١٩، والتي تقدر بـ ٢٨.٨ بليون دولار، وجزء كبير منها يتم تمويله عبر الاقتراض من مصادر خارجية.
ولكي نفهم خطورة حجم النفقات الانتخابية في إطارها الصحيح، فإن أكثر من نصف المواطنين يعيشون على دولار واحد في اليوم، حتى أن نيجيريا قد تم تصنيفها مؤخراَ كعاصمة الفقر في العالم، نظراَ للزيادة المفرطة في عدد المواطنين الذين يعيشون في ظروف فقر شديد أكثر من أي دولة أخرى في العالم. حتى أن البنية التحتية والخدمات الأساسية، مثل الطرق والسكك الحديدية والكهرباء ومصادر المياه النظيفة والرعاية الصحية والتعليم، جميعها أصبحت في حالة سيئة، تتطلب تدخل الدولة بشكل عاجل وضخ الاستثمارات لتحسينها.
ومن المتوقع أن ترتفع النفقات المخصصة للانتخابات لأكثر من ذلك، في المستقبل القريب، نظراَ لحاجة الهيئة المستقلة لإدارة الانتخابات إلى تطوير أدواتها بإدخال أليات التكنولوجيا الرقمية للتغلب على التلاعب والتزوير وضمان نزاهة العملية الانتخابية. بالمقارنة، فإن نيجيريا تخصص سبعة بالمائة فقط من ميزانيتها العامة للإنفاق على التعليم. وبالرغم من ذلك، ما زالت نيجريا تجري الانتخابات العامة بمعدل مرة كل أربع سنوات، فضلاً على انتخابات فرعية تجرى في خلال الفترة الفاصلة بين الانتخابات العامة. وهذه الأجندة الانتخابية المزدحمة تتطلب من الدولة صرف ما يقارب البليون دولار كل أربعة أعوام على بند الانتخابات، وبرغم ذلك الارتفاع الهائل في تكلفة الانتخابات، فإن الأرباح الديمقراطية الناتجة عنها قد تضاءلت.
إن المأزق الذي تمر به نيجريا ما هو إلا صورة مصغرة من ظاهرة ارتفاع تكلفة الانتخابات في أفريقيا ككل، بالرغم من تقلص الفوائد المرجوة من هذه الانتخابات على عملية التطور الديمقراطي بشكل عام. في جميع أرجاء القارة، نجد أن تكلفة الديمقراطية الانتخابية في تزايد مستمر، وصل إلى حد تهديد قدرة الدول على توفير الرخاء المجتمعي لمواطنيها، خصوصاً في ظل ما تعانيه البلدان الأفريقية من تحديات اقتصادية واجتماعية معقدة، ومن ثم فإن السؤال الذي ينبغي طرحه هنا: هل من الحكمة أن تستمر هذه البلدان في صرف نسب هائلة من ميزانيتها كل أربع أو خمس سنوات على طقس سياسي ذو تأثير ضعيف على تطوير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها نحو الأفضل؟ هل هذا الطقس السياسي الديمقراطي المرحلي الذي نسميه "الانتخابات" يستحق هذا الثمن الباهظ الذي ندفعه؟
ليست التكلفة النقدية للانتخابات فقط هي التي تهدد، الآن، بإحباط الهدف المرجو منها وتوليد حالة من خيبة الأمل تضاف إلى تراجع ثقة المواطن في الدولة وفي قدرتها على توفير وتوزيع المنافع العامة، بل إنه يمكننا الزعم بأن التكلفة الاجتماعية للانتخابات المنعقدة بشكل دوري أصبحت أكبر من التكلفة المالية، حيث أنه مع كل دورة انتخابية، يتم استنزاف جزء من استقرار الدولة ومصداقية مؤسساتها. إن الانتخابات التي تجريها نيجريا بشكل دوري منذ عودة الحكم المدني في ١٩٩٩ قد جلبت معها الكثير من القلق والتوتر والموت والعنف والخطاب المتهور، وجميعها كان له أثر بالغ على تماسك النسيج المجتمعي والسياسة الوطنية، فقد ساهمت الانتخابات في توسيع الصدع بين التيارات المختلفة وبالتالي زيادة حدة الانقسامات القائمة سلفاً.
أنا لا أتذكر أي دورة انتخابية، منذ عام ٢٠٠٣ على الأقل، لم يصاحبها الخوف من تفكك نيجيريا أو زوال الدولة، في عامي ٢٠٠٧ و٢٠١١، أودى العنف الذي أعقب الانتخابات بحياة مئات المواطنين في شمال نيجيريا، عندما قام مؤيدو المرشح السابق محمدو بوهاري بأعمال شغب بعد إعلان خسارته. وفي عام ٢٠١٩، ترتب على أعمال العنف المصاحبة لكل من الانتخابات الرئاسية وانتخابات المجلس الوطني مقتل ٤٦ شخص، وفي انتخابات مجلس الولاية والحكومة المحلية التي أجريت بعد ذلك بأسبوعين، في ٩ مارس ٢٠١٩، لقي عشرة أشخاص آخرين حتفهم في خمس ولايات، فيما وصفته صحيفة صنداي تريبيون في عنوانها بأنه "انتخابات دموية أخرى." وتحت هذا العنوان نشرت صنداي عنوانين آخرين يلخصان الطابع المضطرب للانتخابات النيجيرية، الأول كان: "البلطجية وسماسرة الأصوات ومشعلي الحرائق يقودون يوم الانتخابات"؛ والعنوان الثاني كان "النيجيريون يدينون عسكرة الانتخابات في الأنهار وبايلسا وكوارا وأكوا إبوم وبينو" في إشارة إلى نشر الحكومة للجنود والقوات العسكرية في معاقل المعارضة قبل وأثناء الانتخابات، حيث أُعتُبر تدخل العسكريين في تنظيم الانتخابات انتهاكاً فاضحاً لقانون الانتخابات في نيجريا، وهو ما فسره كثير من المراقبين على أنه محاولة من الإدارة السياسية الحالية لاستغلال قوتها العسكرية في التلاعب بنتائج الانتخابات في الولايات التي تسيطر عليها المعارضة. كما تشهد كل دورة انتخابية في نيجيريا انتقالات ديموغرافية هائلة مدفوعة بالخوف، حيث ينتقل أعضاء من مختلف الجماعات العرقية والديانات إلى المناطق التي يسيطر عليها أقاربهم ورجال الدين التابعين لهم، في انتظار نتيجة الانتخابات، وهو الأمر الذي ينتهي في أغلب الأحيان باشتعال اشتباكات عنيفة على أساس طائفي أو عرقي، خاصة في المنطقة الشمالية المضطربة.
وهكذا، أدت الانتخابات الدورية إلى تفاقم حالة الهشاشة والانقسام التي يعاني منها المجتمع النيجيري، وتسببت في اللامبالاة والسخط لدى المواطنين، حيث شعر عامة الشعب، كونهم أصحاب المصلحة الرئيسيين في البناء الديمقراطي، بالضجر بسبب تعرضهم بشكل دوري لأخطار تهدد حياتهم واستقرار بلدهم، جراء استمرار النخبة في ممارسة طقوس سياسة لا تعود بنفع يذكر على واقعهم.
لم تساهم نتائج الانتخابات في تحسين الظروف الاقتصادية أو تعزيز قدرة المواطنين على محاسبة القادة المنتخبين. علاوة على ذلك، كما سأناقش لاحقاً، فإن الحريات الأساسية المتعارف عليها، والتي تأتي نتيجة للممارسة الديمقراطية عبر الانتخابات الدورية أوقعت النيجريين في دائرة من الوهم، وبالتالي تشكلت حالة من اللامبالاة بشكل ملحوظ تمثلت بشكل كبير في ضعف إقبال الناخبين، والذي انخفض من ٦٩.١ بالمائة في ذروته عام ٢٠٠٣ إلى ٤٦.٣ بالمائة في عام ٢٠١٥، وإلى حوالي ٣٥ بالمائة في عام ٢٠١٩. وفي انتخابات ٢٠١٩، أيضاً، انخفضت نسب المشاركة إلى أقل من ٢٠ بالمائة في انتخابات مجلس الولاية والحكومة المحلية، حيث ذكر العديد من النيجيريين على وسائل التواصل الاجتماعي أنهم فقدوا ثقتهم في العملية الانتخابية وأن النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية قبل ذلك بأسبوعين قد أظهرت أن أصواتهم لن تؤثر في النتيجة النهائية.
لا يمكن اعتبار حالة اللامبالاة التي أصابت الناخبين، بمفردها، علامة على خيبة أمل المواطنين في الديمقراطية، ولكنها تنذر بتطورات ذات أثر أكثر تدميراً: وهو تراجع الثقة في الدولة ومؤسساتها وقراراتها، وإن كان تراجع الثقة هذا موجود بالفعل منذ عودة الحكم المدني في عام ١٩٩٩ بعد حوالي عقدين من الديكتاتورية العسكرية. ومع ذلك، اعتماداً على الصيغ النظرية، ينبغي تصحيح مثل هذا الفقد التراكمي للثقة في العقد الاجتماعي السياسي للمعاملات بين الدولة والمواطنين من خلال المُثُل الديمقراطية للتصويت والتمثيل السياسي والمساءلة، وهذا هو ما لم يحدث في نيجيريا. في الواقع، فإن السيناريو المعاكس هو الذي حدث: حيث نشأت علاقة سلبية بين المواطن والدورات الانتخابية المتعاقبة مما أضعف من ثقة المواطنين في الدولة النيجيرية نفسها، وهنا تكمن المفارقة الناجمة عن الطريقة التي تمارس بها الديمقراطية في نيجيريا.
بما إن الديمقراطية قد أصبحت تشكل عبء متنامي على نيجيريا، فإن الإجراءات الإصلاحية المرجوة من ممارستها قد فُقدت بالتبعية، وكذلك فإن ثقة المواطن في الدولة قد فقدت أيضاً، وأصبح المواطنون يعتمدون على أنفسهم في إدارة شئون حياتهم، بما في ذلك مقاومة الجرائم الجنائية ومعاقبة مرتكبيها، وهذا هو ما يؤدي لانهيار الدول، ودولة نيجريا ليست بعيدة عن احتمالات الانهيار، حيث أن الواقع السياسي في نيجريا، يكشف عن نقطة عمياء في الدعوات المؤيدة لاستمرار الديمقراطية: فمن دون تحقيق التوازن السياسي عبر تطبيق اللامركزية، والنمو الاقتصادي المطرد، وتأمين وتنمية الطبقة الوسطى، وتعليم الفقراء وضخ الأمل في نفوسهم، فمن الممكن أن تتسبب الديمقراطية الليبرالية في إحداث أضرار بدلاً من إحراز مكاسب، والمفارقة هنا تكمن في أن الديمقراطية الليبرالية قد أصبحت حاضنة وحامية للوساطة والفساد والحكم السيئ، مما أضر كثيراً باستقرار نيجيريا.